الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{فقاتلوا التي تَبْغِى حتى تَفِيء إلى أَمْرِ الله} ترجع إلى حكمه أو ما أمر به، وإنما أطلق الفيء على الظل لرجوعه بعد نسخ الشمس، والغنيمة لرجوعها من الكفار إلى المسلمين.{فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} بفصل ما بينهما على ما حكم الله، وتقييد الإِصلاح بالعدل هاهنا لأنه مظنة الحيف من حيث إنه بعد المقاتلة.{وَأَقْسِطُواْ} واعدلوا في كل الأمور.{إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} يحمد فعلهم بحسن الجزاء. والآية نزلت في قتال حدث بين الأوس والخزرج في عهده عليه الصلاة والسلام بالسعف والنعال، وهي تدل على أن الباغي مؤمن وأنه إذا قبض عن الحرب ترك كما جاء في الحديث لأنه فيء إلى أمر الله تعالى، وأنه يجب معاونة من بغى عليه بعد تقديم النصح والسعي في المصالحة.{إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} من حيث إنهم منتسبون إلى أصل واحد وهو الإِيمان الموجب للحياة الأبدية، وهو تعليل وتقرير للأمر بالإِصلاح ولذلك كرره مرتبًا عليه بالفاء فقال: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ووضع الظاهر موضع الضمير مضافًا إلى المأمورين للمبالغة في التقرير والتخصيص، وخص الإثنين بالذكر لأنهما أقل من يقع بينهم الشقاق. وقيل المراد بالأخوين الأوس والخزرج. وقرئ {بين إخوتكم} و{إخوانكم}.{واتقوا الله} في مخالفة حكمه والإِهمال فيه.{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} على تقواكم.{يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مّن نّسَاءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنّ} أي لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض إذ قد يكون المسخور منه خيرًا عند الله من الساخر، والقوم مختص بالرجال لأنه إما مصدر نعت به فشاع في الجمع أو جمع لقائم كزائر وزور، والقيام بالأمور وظيفة الرجال كما قال تعالى: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} وحيث فسر بالقبيلين كقوم عاد وفرعون، فإما على التغليب أو الاكتفاء بذكر الرجال على ذكرهن لأنهن توابع، واختيار الجمع لأن السخرية تغلب في المجامع و{عَسَى} باسمها استئناف بالعلة الموجبة للنهي ولا خبر لها لإِغناء الاسم عنه.وقرئ {عسوا أن يكونا} و{عسين أن يكن} فهي على هذا ذات خبر.{وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} أي ولا يغتب بعضكم بعضًا فإن المؤمنين كنفس واحدة، أو لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه. واللمز الطعن باللسان. وقرأ يعقوب بالضم.{وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} ولا يدع بعضكم بعضًا بلقب السوء، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفًا.{بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإِيمان واشتهارهم به، والمراد به إما تهجين نسبة الكفر والفسق وإلى المؤمنين خصوصًا إذ روي أن الآية نزلت في صفية بنت حيي رضي الله عنها، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها «هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد عليهم السلام» أو للدلالة على أن التنابز فسق والجمع بينه وبين الإِيمان مستقبح.{وَمَن لَّمْ يَتُبْ} عما نهى عنه.{فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب.{يا أيها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيرًا مّنَ الظن} كونوا منه على جانب، وإبهام الكثير ليحتاط في كل ظن ويتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل، فإن من الظن ما يجب اتباعه كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وما يحرم كالظن في الإِلهيات والنبوات وحيث يحالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين، وما يباح كالظن في الأمور المعاشية.{إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} مستأنف للأمر، والإِثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه. والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها.{وَلاَ تَجَسَّسُواْ} ولا تبحثوا عن عورات المسلمين، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كالتلمس، وقرئ بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته ولذلك قيل للحواس الخمس الجواس. وفي الحديث «لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته» {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} ولا يذكر بعضكم بعضًا بالسوء في غيبته. وسئل عليه الصلاة والسلام عن الغيبة فقال: «أن تذكر أخاك بما يكرهه، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} تمثيل لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه مع مبالغات الاستفهام المقرر، وإسناد الفعل إلى أحد للتعميم وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإِنسان وجعل المأكول أخًا وميتًا وتعقيب ذلك بقوله: {فَكَرِهْتُمُوهُ} تقريرًا وتحقيقًا لذلك. والمعنى إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته، وانتصاب {مَيْتًا} على الحال من اللحم أو الأخ وشدده نافع.{واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} لمن اتقى ما نهى عنه وتاب مما فرط منه، والمبالغة في ال {تَوَّابٌ} لأنه بليغ في قبول التوبة إذ يجعل صاحبها كمن لم يذنب، أو لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم، روي: أن رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما إدامًا، وكان أسامة على طعامه فقال: ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: «ما لي أرى حضرة اللحم في أفواهكما»، فقالا: ما تناولنا لحمًا، فقال: «إنكما قد اغتبتما» فنزلت.{يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى} من آدم وحواء عليهما السلام، أو خلقنا كل واحد منكم من أب وأم فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب. ويجوز أن يكون تقريرًا للأخوة المانعة عن الاغتياب.{وجعلناكم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} الشعب الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد وهو يجمع القبائل. والقبيلة تجمع العمائر. والعمارة تجمع البطون. والبطن تجمع الأفخاذ. والفخذ يجمع الفضائل، فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، وعباس فصيلة. وقبل الشعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب.{لتعارفوا} ليعرف بعضكم بعضًا لا للتفاخر بالآباء والقبائل. وقرئ {لتعارفوا} بالإِدغام و{لتتعارفوا} و{لتعرفوا}.{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} فإن التقوى بها تكمل النفوس وتتفاضل بها الأشخاص، فمن أراد شرفًا فليلتمسه منها كما قال عليه الصلاة والسلام: «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» وقال عليه الصلاة والسلام: «يا أيها الناس إنما الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله» {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بكم {خَبِيرٌ} ببواطنكم.{قالتِ الأعراب ءامَنَّا} نزلت في نفر من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون الصدقة ويمنون.{قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} إذ الإِيمان تصديق مع ثقة وطمأنينة قلب، ولم يحصل لكم إلا لما مننتم على الرسول عليه الصلاة والسلام بالإِسلام وترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة.{ولكن قولواْ أَسْلَمْنَا} فإن الإِسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادتين وترك المحاربة، يشعر به وكان نظم الكلام أن يقول لا تقولوا آمنا {ولكن قولواْ أَسْلَمْنَا}، أو لم تؤمنوا ولكن أسلمتم فعدل منه إلى هذا النظم احترازًا من النهي عن القول بالإِيمان والجزم بإسلامهم، وقد فقد شرط اعتباره شرعًا.{وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان في قُلُوبِكُمْ} توقيت ل {قولواْ} فإنه حال من ضميره أي: {ولكن قولواْ أَسْلَمْنَا} ولم تواطئ قلوبكم ألسنتكم بعد.{وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} بالإِخلاص وترك النفاق.{لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أعمالكم} لا ينقصكم من أجورها.{شَيْئًا} من لات يليت ليتا إذا نقص، وقرأ البصريان {لا يألتكم} من الألت وهو لغة غطفان.{إِنَّ الله غَفُورٌ} لما فرط من المطيعين.{رَّحِيمٌ} بالتفضل عليهم.{إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} لم يشكوا من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة، وفيه إشارة إلى ما أوجب نفي الإِيمان عنهم، و{ثُمَّ} للإشعار بأن اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإِيمان ليس حال الإِيمان فقط بل فيه وفيما يستقبل فهي كما في قوله: {ثُمَّ استقاموا} {وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ في سَبِيلِ الله} في طاعته والمجاهدة بالأموال والأنفس تصلح للعبادات المالية والبدنية بأسرها.{أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون} الذين صدقوا في إدعاء الإِيمان.{قُلْ أَتُعَلّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} أتخبرونه به بقولكم {آمنا}.{والله يَعْلَمُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} لا يخفى عليه خافية، وهو تجهيل لهم وتوبيخ. روي أنه لما نزلت الآية المتقدمة جاؤوا وخلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية.{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} يعدون إسلامهم عليك منة وهي النعمة التي لا يستثيب موليها ممن بذلها إليه، من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته. وقيل النعمة الثقيلة من المن.{قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم} أي بإسلامكم، فنصب بنزع الخافض أو تضمين الفعل معنى الاعتدال.{بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للإيمان} على ما زعمتم مع أن الهداية لا تستلزم الاهتداء، وقرئ {إن هَداكُمْ} بالكسر و{إِذْ هَداكُمْ}.{إِن كُنتُمْ صادقين} في ادعاء الإِيمان، وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم، وفي سياق الآية لطف وهو أنهم لما سموا ما صدر عنهم إيمانًا ومنوا به فنفى أنه إيماٌن وسماه إسلامًا بأن قال يمنون عليكم بما هو في الحقيقة إسلام وليس بجدير أن يمن به عليك، بل لو صح ادعاؤهم للإِيمان فلله المنة عليهم بالهداية له لا لهم.{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض} ما غاب فيهما.{والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} في سركم وعلانيتكم فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم، وقرأ ابن كثير بالياء لما في الآية من الغيبة.عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه». اهـ.
|